كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} أَيْ وَإِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ بَعْثَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي ضَلَالٍ بَيِّنٍ وَاضِحٍ. وَأَيُّ ضَلَالٍ أَبْيَنُ مِنْ ضَلَالِ قَوْمٍ مُشْرِكِينَ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَيَتَّبِعُونَ الْأَوْهَامَ أُمِّيِّينَ لَا يَقْرَءُونَ وَلَا يَكْتُبُونَ، فَيَعْرِفُونَ كُنْهَ ضَلَالَتِهِمْ وَحَقِيقَةَ جَهَالَتِهِمْ، فَضَلَالُهُمْ أَبْيَنُ مِنْ ضَلَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ لِأُولِي الألباب.
{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} بَعْدَ تَبْرِئَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْغُلُولِ وَبَيَانِ مَا بُعِثَ لِأَجْلِهِ عَادَ الْكَلَامُ إِلَى كَشْفِ الشُّبُهَاتِ الَّتِي عَرَضَتْ لِلْغُزَاةِ فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ وَالرَّدِّ عَلَى الْمُنَافِقِينَ وَبَيَانِ ضَلَالِهِمْ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ قال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ الِاسْتِفْهَامَ الْأَوَّلَ لِلتَّقْرِيعِ ولَمَّا بِمَعْنَى حِينَ والْمُصِيبَةُ مَا أَصَابَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ مِنْ ظُهُورِ الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهِمْ- وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ- وَالْمَشْهُورُ أَنَّ مَعْنَى إِصَابَتِهِمْ مِثْلَيْهَا هُوَ كَوْنُهُمْ قَتَلُوا فِي بَدْرٍ سَبْعِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَأَسَرُوا سَبْعِينَ، وَالْمُشْرِكُونَ لَمْ يَقْتُلُوا مِنْهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ غَيْرَ سَبْعِينَ رَجُلًا. فَجَعَلَ الْأَسْرَى فِي حُكْمِ الْقَتْلَى لِلتَّمَكُّنِ مِنْ قَتْلِهِمْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْمُصِيبَةِ الْهَزِيمَةُ، وَبِالْمِثْلَيْنِ هَزِيمَةُ الْمُؤْمِنِينَ لِلْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ وَهَزِيمَتُهُمْ إِيَّاهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ.
وَيَحْتَمِلُ أن يكون مَا نَالُوهُ يَوْمَ أُحُدٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي أَوَّلِ الأمر هُوَ مِثْلَيْ مَا نَالَهُ الْمُشْرِكُونَ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بَعْدَ تَرْكِ الرُّمَاةِ مَرْكَزَهُمْ وَإِخْلَائِهِمْ ظُهُورَ الْمُسْلِمِينَ لِخَيْلِ الْمُشْرِكِينَ- رَاجِعْ {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} [3: 152] وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: أَنَّى هَذَا!! فَهُوَ تَعَجُّبٌ مِنْهُمْ؛ أَيْ مِنْ أَيْنَ جَاءَنَا هَذَا الْمُصَابُ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْكَلَامُ إِنْكَارٌ لِتَعَجُّبِهِمْ وَبَيَانٌ لِمِنَّةِ اللهِ تعالى عَلَيْهِمْ حَتَّى فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ، فَإِنَّ خِذْلَانَهُمْ فِيهَا لَمْ يَبْلُغْ ظَفَرَهُمْ فِي بَدْرٍ، بَلْ كَانَ نَصْرُهُمْ ضِعْفَيِ انْتِصَارِ الْمُشْرِكِينَ هُنَا كَأَنَّهُ يَقُولُ: لِمَاذَا نَسِيتُمْ فَضْلَ اللهِ عَلَيْكُمْ فِي بَدْرٍ فَلَمْ تَذْكُرُوهُ؟ وَأَخَذْتُمْ تَعْجَبُونَ مِمَّا أَصَابَكُمْ فِي أُحُدٍ وَتَسْأَلُونَ عَنْ سَبَبِهِ وَمَصْدَرِهِ!
وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ سَبَبَ تَعَجُّبِهِمْ مِمَّا أَصَابَهُمْ هُوَ اعْتِقَادُهُمْ أَنَّهُمْ لابد أَنْ يَنْتَصِرُوا وَهُمْ مُسْلِمُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَفِيهِمْ رَسُولُهُ- وَتَقَدَّمَ كَشْفُ هَذِهِ الشُّبْهَةِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ- وَقَدْ ذَكَرَ هُنَا تَعَجُّبُهُمْ لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ هَذَا الْجَوَابَ وَمَا فِيهِ مِنَ الْحِكَمِ لِأُولِي الألباب وَهُوَ: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} فَإِنَّكُمْ أَخْطَأْتُمُ الرَّأْيَ بِخُرُوجِكُمْ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى أُحُدٍ، وَكَانَ الرَّأْيَ مَا رَآهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْبَقَاءِ فِيهَا حَتَّى إِذَا مَا دَخَلَهَا الْمُشْرِكُونَ عَلَيْهِمْ قَاتَلُوهُمْ عَلَى أَفْوَاهِ الْأَزِقَّةِ وَالشَّوَارِعِ، وَرَمَاهُمُ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ بِالْحِجَارَةِ مِنْ سُطُوحِ الْمَنَازِلِ، وَرُوِيَ هَذَا عَنِ الرَّبِيعِ، ثُمَّ إِنَّكُمْ فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمر وَعَصَيْتُمُ الرَّسُولَ طَمَعًا فِي الْغَنِيمَةِ، فَفَارَقَ الرُّمَاةُ مِنْكُمْ مَوْقِعَهُمُ الَّذِي أَقَامَهُمْ فِيهِ لِحِمَايَةِ ظُهُورِكُمْ بِنَضْحِ عَدُوِّكُمْ بِالنَّبْلِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَكُرَّ عَلَيْكُمْ مِنْ وَرَائِكُمْ، هَذَا الْمُتَبَادِرُ الْمَشْهُورُ وَالْمَعْقُولُ الْمَعْنَى الْمُوَافِقُ لِقَاعِدَةِ كَوْنِ الْعُقُوبَاتِ آثَارًا لَازِمَةً لِلْأَعْمَالِ. وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَيُرْوَى عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ مَا حَصَلَ يَوْمَ أُحُدٍ مِنَ الْمُصِيبَةِ كَانَ عِقَابًا عَلَى أَخْذِ الْفِدَاءِ عَنْ أَسْرَى بَدْرٍ الَّذِي عَاتَبَ اللهُ عَلَيْهِ نَبِيَّهُ بِقوله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أن يكون لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [8: 67] إِلَخْ. وَقَوَّوْهُ بِمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللهَ تعالى قَدْ كَرِهَ مَا صَنَعَ قَوْمُكَ فِي أَخْذِهِمُ الْأُسَارَى، وَقَدْ أَمَرَكَ أَنْ تُخَيِّرَهُمْ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: أَنْ يُقَدَّمُوا فَتُضْرَبَ أَعْنَاقُهُمْ، وَبَيْنَ أَنْ يَأْخُذُوا الْفِدَاءَ عَلَى أَنْ يُقْتَلَ مِنْهُمْ عِدَّتُهُمْ قَالَ: فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُمْ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ عَشَائِرُنَا وَإِخْوَانُنَا نَأْخُذُ فِدَاءَهُمْ، فَنَتَقَوَّى بِهِ عَلَى قِتَالِ عَدُوِّنَا وَيَسْتَشْهِدُ مِنَّا عِدَّتُهُمْ فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا نَكْرَهُ قَالَ: فَقُتِلَ مِنْهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ سَبْعُونَ رَجُلًا عِدَّةُ أُسَارَى أَهْلِ بَدْرٍ. وَأَقُولُ مَا أَرَى أَنَّ هَذَا يَصِحُّ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه، فَإِنَّهُ بَعِيدٌ عَنِ الْمَعْقُولِ وَكَيْفَ يَصِحُّ وَالْمَأْثُورُ أَنَّ أَخْذَ الْفِدَاءِ كَانَ مِنْ رَأْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَرَأْيِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه، وَحَاشَا لَهُمْ أَنْ يَرْضَيَا بِأَخْذِ مَالٍ يُعَاقَبُونَ عَلَيْهِ بِقَتْلِ سَبْعِينَ مُؤْمِنًا!! وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا بَحْثُ كَوْنِ الْعُقُوبَاتِ آثَارًا طَبِيعِيَّةً لِلْأَعْمَالِ فَلْيَرْجِعْ إِلَيْهِ مَنْ شَاءَ.
إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا يُعْجِزُهُ تَنْفِيذُ سُنَنِهِ بِعِقَابِ الْمُسِيءِ وَإِثَابَةِ الْمُحْسِنِ وَإِقَامَةِ النِّظَامِ الْعَامِّ فِي الْكَائِنَاتِ، بِرَبْطِ الْأَسْبَابِ بِالْمُسَبِّبَاتِ، فَلَا يَشِذُّ عَنْ ذَلِكَ مُؤْمِنٌ وَلَا كَافِرٌ وَلَا بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: بِنَاءً عَلَى كَوْنِ وَجْهِ تَعَجُّبِهِمْ هُوَ وُجُودُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فِيهِمْ. أَيْ إِنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم لَا يَنْفَعُ أُمَّةً قَدْ خَالَفَتِ السُّنَنَ وَالطَّبَائِعَ فَلَا تَغْتَرُّوا بِوُجُودِكُمْ مَعَهُ، مَعَ الْمُخَالَفَةِ لِلَّهِ وَلَهُ، فَهُوَ لَا يَحْمِيكُمْ مِمَّا تَقْتَضِيهِ سُنَنُ اللهِ فِيكُمْ وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ أَنَّ قوله تعالى: {أَوَلَمَّا} فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ هَمْزَةَ الِاسْتِفْهَامِ قُدِّمَتْ عَلَى الْوَاوِ لِأَنَّ لَهَا الصَّدَارَةَ، وَالْوَاوُ عَاطِفَةٌ لِلْجُمْلَةِ الِاسْتِفْهَامِيَّةِ.
وَثَانِيهمَا: أَنَّ الْوَاوَ عَاطِفَةٌ لِمَا بَعْدَهَا عَلَى مَحْذُوفٍ قَبْلَهَا هُوَ الْجُمْلَةُ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ وَالتَّقْدِيرُ: أَخْطَأْتُمُ الرَّأْيَ فِي الْخُرُوجِ إِلَى أُحُدٍ وَفَعَلْتُمْ مِنَ الْفَشَلِ وَالْعِصْيَانِ، وَلَمْ تُبَالُوا بِذَلِكَ وَتُفَكِّرُوا فِي عَاقِبَتِهِ وَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا تَعَجُّبًا مِنْهُ وَاسْتِغْرَابًا!! وَقَدَّرَ بَعْضُهُمْ غَيْرَ ذَلِكَ.
وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَيْ لَا عَجْزًا فِي الْقُدْرَةِ وَلَا قَهْرًا لِلْإِرَادَةِ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ قُدْرَتَهُ لَا يَمْنَعُهَا وُجُودُ الرَّسُولِ فِيهِمْ. أَقُولُ أَيْ وَكُلُّ مَا أَصَابَكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْتَقَى جَمْعُكُمْ بِجَمْعِ الْمُشْرِكِينَ فِي أُحُدٍ فَهُوَ بِإِذْنِ اللهِ: أَيْ إِرَادَتِهِ الْأَزَلِيَّةِ وَقَضَائِهِ السَّابِقِ بِأَنْ تَكُونَ السُّنَنُ الْعَامَّةُ فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ مُطَّرِدَةً، فَكُلُّ عَسْكَرٍ يُخْطِئُ الرَّأْيَ وَيَعْصِي الْقَائِدَ وَيَخَلِّي بَيْنَ ظَهْرِهِ يُصَابُ بِمِثْلِ مَا أُصِبْتُمْ أَوْ بِمَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ. هَذَا هُوَ مَعْنَى مَا يُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- مِنْ تَفْسِيرِ الْإِذْنِ هُنَا بِقَضَاءِ اللهِ وَحُكْمِهِ، وَفِيهِ تَسْلِيَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ كَمَا قِيلَ وَعِبْرَةٌ، وَعِلْمٌ عَالٍ يُجَلِّي لَهُمْ قَوْلَهُ السَّابِقَ فِي هَذَا السِّيَاقِ: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} [3: 137] وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْإِذْنَ هُنَا عِبَارَةٌ عَنِ التَّخْلِيَةِ وَعَدَمِ الْمُعَارَضَةِ وَالْمَنْعِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، أَيْ أنه تعالى لَمْ يَمْنَعِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْإِيقَاعِ بِالْمُؤْمِنِينَ بِعِنَايَةٍ خَاصَّةٍ مِنْهُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَحِقُّوا تِلْكَ الْعِنَايَةَ مِنْهُ سبحانه، وَقَدْ فَشِلُوا فِي الأمر وَعَصَوُا الرَّسُولَ، فَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ تعالى أَذِنَ بِهِ وَأَرَادَهُ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ أَيْ حَالَهُمْ مِنْ قُوَّةِ الإيمان وَضَعْفِهِ وَالِاسْتِفَادَةِ مِنَ الْمَصَائِبِ حَتَّى لَا يَعُودُوا إِلَى أَسْبَابِهَا، وَالْعِلْمُ بِسُنَنِ اللهِ عِنْدَمَا يَظْهَرُ فِيهِمْ حُكْمُهَا فِي الشِّدَّةِ وَالْبَأْسِ، أَيْ لِيَظْهَرَ عِلْمُهُ بِذَلِكَ وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مُقْتَضَاهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى التَّعْلِيلِ بِالْعِلْمِ فَارْجِعْ إِلَى تَفْسِيرِ قوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا} مِنْ هَذَا السِّيَاقِ فَمَا هُوَ بِبَعِيدٍ، فَالتَّعْلِيلُ الْأَوَّلُ الْمَأْخُوذُ مِنْ قوله: {فَبِإِذْنِ اللهِ} لِبَيَانِ السَّبَبِ، وَالتَّعْلِيلُ الثَّانِي لِبَيَانِ الْحِكْمَةِ وَالْفَائِدَةِ فِي ذَلِكَ، وَعُطِفَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ- عَزَّ وَجَلَّ-: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا لِيُبَيِّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا حَالَ الْمُنَافِقِينَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا بَيَّنَ مِنْ قَبْلُ حَالَ الْكَافِرِينَ مَعَهُمْ، وَالَّذِينَ نَافَقُوا هُمُ الَّذِينَ أَظْهَرُوا الإيمان وَتَبَطَّنُوا الْكُفْرَ، قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: أنه مَأْخُوذٌ مِنَ النَّفَقِ، وَهُوَ السِّرْبُ فَهُمْ يَتَسَتَّرُونَ بِالإسلام كَمَا يَتَسَتَّرُ الرَّجُلُ فِي السِّرْبِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: أنه مُشْتَقٌ مِنَ النَّافِقَاءِ وَهُوَ جُحْرُ الْيَرْبُوعِ أَوْ أَحَدُ بَابَيْهِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أنه يَجْعَلُ لِجُحْرِهِ بَابَيْنِ: أَحَدُهُمَا الْقَاصِعَاءُ وَالْآخُرُ النَّافِقَاءُ فَإِذَا طُلِبَ مِنْ أَحَدِهِمَا خَرَجَ مِنَ الْآخَرِ وَهَكَذَا شَأْنُ الْمُنَافِقِ يَظْهَرُ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ بَابِ الإيمان وَلِلْكَافِرِينَ مِنْ بَابِ الْكُفْرِ، فَإِذَا أَصَابَتْهُ مَشَقَّةٌ مِنْ أَحَدِهِمَا لَجَأَ إِلَى الْآخَرِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنِ النَّافِقَاءَ جُحْرُ الْيَرْبُوعِ يَحْفِرُهُ فِي الْأَرْضِ وَيُرَقِّقُهُ مِنْ أَعْلَاهُ فَإِذَا رَابَهُ شَيْءٌ فَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ دَفَعَ التُّرَابَ بِرَأْسِهِ وَخَرَجَ، فَقِيلَ لِلْمُنَافِقِ مُنَافِقٌ لِأَنَّهُ يُضْمِرُ الْكُفْرَ فِي بَاطِنِهِ، فَإِذَا فُتِّشَهُ رَمَى عَنْهُ ذَلِكَ الْكُفْرَ وَتَمَسَّكَ بِالإسلام. كَذَا وَجَّهَهُ الرَّازِيُّ، وَلَكَ أَنْ تَقُولَ لِأَنَّهُ يَلْجَأُ لِلْإِسْلَامِ وَيَحْتَمِيَ بِهِ، فَإِذَا رَابَهُ مِنْهُ شَيْءٌ خَرَجَ مِنْهُ إِلَى الْكُفْرِ. وَقَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَظْهَرُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ.
وَسَيَأْتِي مِنْ أَوْصَافِهِمْ مَا يَظْهَرُ بِهِ وَجْهُ التَّسْمِيَةِ كَقوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [4: 141].
وَالْمَعْنَى وَلِيَعْلَمَ حَالَ الَّذِينَ نَافَقُوا، أَيْ وَقَعَ مِنْهُمُ النِّفَاقُ فِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ، وَلَمْ يَقُلِ الْمُنَافِقِينَ كَمَا قَالَ الْمُؤْمِنِينَ؛ لِأَنَّ النِّفَاقَ لَمْ يَكُنْ صِفَةً ثَابِتَةً لَهُمْ كَثُبُوتِ إِيمَانِ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ تَابَ بَعْدَ ذَلِكَ وَصَدَقَ فِي إِيمَانِهِ، أَيْ لِيَظْهَرَ عِلْمُهُ بِذَلِكَ فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مُقْتَضَاهُ مِنَ الْعِبْرَةِ لِسُوءِ عَاقِبَةِ الْمُنَافِقِينَ حَتَّى فِيمَا ظَنُّوهُ حَزْمًا وَتَوَقِّيًا لِلْمَكْرُوهِ وَاحْتِيَاطًا فِي الأمر، كَالْعِبْرَةِ بِحُسْنِ عَاقِبَةِ الصَّادِقِينَ حَتَّى فِيمَا ظَنُّوهُ حَزْمًا وَتَوَقِّيًا لِلْمَكْرُوهِ وَاحْتِيَاطًا فِي الأمر، كَالْعِبْرَةِ بِحُسْنِ عَاقِبَةِ الصَّادِقِينَ حَتَّى فِيمَا ظَنُّوهُ شَرًّا وَسُوءًا وَكَرِهُوا حُصُولَهُ، أَمَّا قوله تعالى: {وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا} فَمَعْنَاهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَافَقُوا قَدْ دُعُوا إِلَى الْقِتَالِ عَلَى أنه فِي سَبِيلِ اللهِ، أَيْ دِفَاعًا عَنِ الْحَقِّ وَالدِّينِ وَأَهْلِهِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَإِقَامَةِ دِينِهِ لَا لِلْحَمِيَّةِ وَالْهَوَى، وَلَا ابْتِغَاءَ الْكَسْبِ وَالْغَنِيمَةِ، أَوْ عَلَى أنه دِفَاعٌ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَهْلِهِمْ وَوَطَنِهِمْ فَرَاوَغُوا وَحَاوَلُوا، وَقَعَدُوا وَتَكَاسَلُوا {قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ} أَيْ لَوْ نَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَلْقَوْنَ قِتَالًا فِي خُرُوجِكُمْ لَاتَّبَعْنَاكُمْ وَلَكِنَّنَا نَرَى أَنَّ الأمر يَنْتَهِي بِغَيْرِ قِتَالٍ، نَزَلَ ذَلِكَ فِي عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ فِي جُمْلَةِ الْأَلْفِ الَّذِينَ خَرَجَ بِهِمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ رَجَعُوا مِنَ الطَّرِيقِ وَهُمْ ثَلَاثُمِائَةٍ لِيُخَذِّلُوا الْمُسْلِمِينَ وَيُوقِعُوا فِيهِمُ الْفَشَلَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ فِي مُجْمَلِ الْقِصَّةِ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِيهَا (رَاجِعْ ص80 مِنَ الْجُزْءِ الرَّابِعِ ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ لِلْكِتَابِ) قال تعالى: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ} أَيْ أَقْرَبُ إِلَى الْكُفْرِ مِنْهُمْ إِلَى الإيمان يَوْمَ قَالُوا ذَلِكَ الْقَوْلَ لِظُهُورِ صِفَتِهِ فِيهِمْ وَانْطِبَاقِ آيَتِهِ عَلَيْهِمْ. فَإِنَّ الْقُعُودَ عَنِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالدِّفَاعِ عَنِ الْوَطَنِ وَالْأُمَّةِ عِنْدَ هُجُومِ الْأَعْدَاءِ مِنَ الْفَرَائِضِ الَّتِي لَا يَتَعَمَّدُ الْمُؤْمِنُ تَرْكَهَا، كَمَا يُعْلَمُ مِنَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ فِي هَذَا السِّيَاقِ وَغَيْرِهِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ صَرِيحٌ فِي جَعْلِهِ مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي حُصِرَ الإيمان فِي الْمُتَّصِفِينَ بِهَا كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [49: 15] قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَيْسَ قوله: {يَوْمَئِذٍ} لِلِاحْتِرَاسِ بَلْ لِرَفْعِ شَأْنِ هَذَا الْيَوْمِ الَّذِي حَصَلَ فِيهِ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَقَالَ إِنَّهُمْ أَقْرَبُ إِلَى الْكُفْرِ وَلَمْ يَقُلْ إِنَّهُمْ كُفَّارٌ مِنْ عِلْمِهِ بِحَالِهِمْ تَأْدِيبًا لَهُمْ وَمَنْعًا لِلتَّهَجُّمِ عَلَى التَّكْفِيرِ بِالْعَلَامَاتِ وَالْقَرَائِنِ.
أَقُولُ: يَعْنِي إِنَّ هَذَا الَّذِي صَدَرَ مِنْهُمْ وَإِنْ كَانَ مِنْ شَأْنِهِ أَلَّا يَصْدُرَ إِلَّا مِنَ الْكَافِرِينَ لَا يُعَدُّ- بِحَدِّ ذَاتِهِ- كُفْرًا صَرِيحًا فِي حُكْمِ الظَّاهِرِ، لِاحْتِمَالِ الْعُذْرِ وَالتَّأْوِيلِ، وَلَوْ سَجَّلَ عَلَيْهِمْ بِهِ ظَاهِرًا لَوَجَبَ أَنْ يُعَامَلُوا مُعَامَلَةَ الْكُفَّارِ مَعَ أنه صلى الله عليه وسلم كَانَ يُعَامِلُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ مُعَامَلَةَ الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى أنه صَلَّى عَلَى جِنَازَةِ رَئِيسِهِمْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ بَعْدَ بِضْعِ سِنِينَ مِنْ وَقْعَةِ أُحُدٍ، وَحِينَئِذٍ فَضَحَهُمُ اللهُ تعالى فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ بَعْدَ مَا كَانَ مِنْ ظُهُورِ كُفْرِهِمْ وَنِفَاقِهِمْ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ} [9: 84] فَحَاصِلُ مَعْنَى عِبَارَةِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ أنه تعالى كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ يُبْطِنُونَ الْكُفْرَ، وَأَنَّ امْتِنَاعَهُمْ عَنِ الْجِهَادِ عَمَلٌ مِنْ أَعْمَالِ الْكُفْرِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ فِي الْآيَةِ بَلْ صَرَّحَ بِمَا يُومِئُ إِلَيْهِ تَأْدِيبًا لَهُمْ عَسَى أَنْ يَتُوبَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَتَمَكَّنِ الْكُفْرُ فِي قَلْبِهِ، وَمَنْعًا لِلنَّاسِ مِنَ الْهُجُومِ عَلَى التَّكْفِيرِ. فَلْيَعْتَبِرْ بِهَذَا مُتَفَقِّهَةُ زَمَانِنَا الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي تَكْفِيرِ مَنْ يُخَالِفُ شَيْئًا مِنْ تَقَالِيدِهِمْ وَعَادَاتِهِمْ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْبَصِيرَةِ فِي دِينِهِ وَإِيمَانِهِ وَالتَّقْوَى فِي عَمَلِهِ، وَلَمْ يَكُونُوا عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.
وَقوله تعالى: {يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِحَالِهِمْ فِي مِثْلِ قَوْلِهِمْ هَذَا، أَيْ أَنَّ الْكَذِبَ دَأْبُهُمْ وَعَادَتُهُمْ يَصْدُرُ عَنْهُمْ عَلَى الدَّوَامِ وَالِاسْتِمْرَارِ لِيَسْتُرُوا بِذَلِكَ مَا يُضْمِرُونَ، وَيُؤَيِّدُوا بِهِ مَا يُظْهِرُونَ، وَهَلْ يَكُونُ نِفَاقٌ بِغَيْرِ كَذِبٍ؟ وَفِي تَقَيُّدِ الْقَوْلِ بِالْأَفْوَاهِ تَوْضِيحٌ لِنِفَاقِهِمْ بِمُخَالَفَةِ ظَاهِرِهِمْ لِبَاطِنِهِمْ وَفِي التَّنْزِيلِ آيَاتٌ أُخْرَى فِي بَيَانِ حَالِهِمْ هَذِهِ قَالَ: وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْكَيْدِ لِلْمُسْلِمِينَ وَتَرَبُّصِ الدَّوَائِرِ بِهِمْ، فَهُوَ يُبَيِّنُ فِي كُلِّ حِينِ مِنْ مُخَبَّآتِ سَرَائِرِهِمْ مَا تَقْتَضِيهِ الْحَالُ، وَتَقُومُ بِهِ الْمَصْلَحَةُ، ثُمَّ هُوَ الَّذِي يُعَاقِبُهُمْ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ أَنَّ قوله تعالى: {وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا} فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أنه عَطْفٌ عَلَى نَافَقُوا وَهُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ وَالثَّانِي أنه اسْتِئْنَافٌ، وَقَوْلُهُ قَبْلَهُ: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} قَدْ تَمَّ بِهِ الْكَلَامُ السَّابِقُ، فَالْوَاوُ فِي قوله: {وَقِيلَ لَهُمْ} هِيَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا وَاوَ الِاسْتِئْنَافِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَقَدْ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي هَذِهِ الْوَاوِ مَا حَاصِلُهُ: وَقَدْ خَلَطَ بَعْضُهُمْ فِي الْكَلَامِ عَنْ هَذِهِ الْوَاوِ لِعَدَمِ فَهْمِ الْمُرَادِ مِنْهَا، وَلَيْسَ هُوَ بِمَعْنَى الِاسْتِئْنَافِ الْمَشْهُورِ، وَإِنَّمَا تَأْتِي لِوَصْلِ كَلَامٍ بِكَلَامٍ آخَرَ مُبَايِنٍ لِلْأَوَّلِ تَمَامَ الْمُبَايَنَةِ مِنْ جِهَةِ ذَاتِهِ، وَمُرْتَبِطٍ بِهِ مِنْ جِهَةِ السِّيَاقِ وَالْغَرَضِ، فَفِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ إِذَا فُصِلَ الثَّانِي مِنَ الْأَوَّلِ يَكُونُ فِي الْفَصْلِ الْبَحْتِ وَحْشَةٌ عَلَى السَّمْعِ وَإِيهَامٌ لِلذِّهْنِ أَنَّ الْغَرَضَ الَّذِي سِيقَ لَهُ الْكَلَامُ قَدِ انْتَهَى، فَيَجِيءُ الْمُتَكَلِّمُ بِالْوَاوِ لِيَسْتَمِرَّ الْأُنْسُ بِالْكَلَامِ فِي الْغَرَضِ الْوَاحِدِ وَيَظَلَّ الذِّهْنُ مُنْتَظِرًا لِغَايَةِ الْفَائِدَةِ وَالْغَرَضِ مِنْهُ، فَكَأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ عِنْدَ نُطْقِهِ بِالْجُمْلَةِ الْمُسْتَأْنَفَةِ بِالْوَاوِ لِلِانْتِقَالِ مِنْ جُزْءٍ مِنْ كَلَامِهِ قَدْ تَمَّ إِلَى جُزْءٍ آخَرَ يُرَادُ بِهِ مِثْلُ مَا يُرَادُ مِمَّا قَبْلَهُ يَقُولُ: هَذَا جُزْءٌ مِنَ الْكَلَامِ يُثْبِتُ غَرَضِي وَيُبَيِّنُ مُرَادِي وَثَمَّ جُزْءٌ آخَرُ مِنْهُ وَهُوَ كَذَا. وَهَذَا الشَّرْحُ مَبْنِيٌّ عَلَى كَوْنِ الْجُمْلَةِ الْمُسْتَأْنَفَةِ لَا اشْتِرَاكَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا قَبْلَهَا بِوَجْهٍ مَا وَإِنَّمَا يَقْرِنُهَا السِّيَاقُ وَالْغَرَضُ، وَفِيهَا رَأْيٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهَا عَطْفٌ عَلَى مَعْنًى خَفِيٍّ فِيمَا قَبْلَهَا غَيْرِ مَذْكُورٍ وَلَا مُعَيَّنٍ وَإِنَّمَا يُنْتَزَعُ مِنَ الْكَلَامِ انْتِزَاعًا، فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَقُولُوا إِنَّ الْوَاوَ وَفِيهَا عَاطِفَةٌ إِذْ لَا مَعْطُوفَ عَلَيْهِ فِي الْكَلَامِ وَقَالُوا لِلِاسْتِئْنَافِ مُرَاعَاةً لِصُورَةِ اللَّفْظِ.
وَمِنْهَا أَنَّ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ لِلْكُفْرِ ولِلْإِيمَانِ مُتَعَلِّقَةٌ بِأَقْرَبُ عَلَى أَنَّهَا بِمَعْنَى إِلَى فَإِنَّ الْمُسْتَعْمَلَ فِي صِلَةِ الْقُرْبِ حَرْفَا إِلَى ومِنْ يُقَالُ قَرُبَ مِنْهُ وَقَرُبَ إِلَيْهِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أنه يَتَعَدَّى بِاللَّامِ أيضا.
ثُمَّ ذَكَرَ عَنِ الْمُنَافِقِينَ قَوْلًا آخَرَ قَالُوهُ بَعْدَ الْقِتَالِ- وَإِنَّمَا كَانَ الْقَوْلُ السَّابِقُ قَبْلَ الْقِتَالِ اعْتِذَارًا عَنِ الْقُعُودِ وَالتَّخَلُّفِ- فَقَالَ: الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا أَيْ هُمُ الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ، أَوْ هُوَ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ الَّذِينَ نَافَقُوا أَوْ نَعْتٌ لَهُ. أَيْ قَالُوا لِأَجْلِ إِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي أُحُدٍ وَفِي شَأْنِهِمْ. وَالْحَالُ أَنَّهُمْ هُمْ قَدْ قَعَدُوا عَنِ الْقِتَالِ: لَوْ أَطَاعُونَا فِي الْقُعُودِ عَنِ الْقِتَالِ فَلَمْ يَخْرُجُوا كَمَا أَنَّنَا لَمْ نَخْرُجْ لَمَا قُتِلُوا كَمَا أَنَّنَا نَحْنُ لَمْ نُقْتَلْ إِذْ لَمْ نَخْرُجْ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَذَا وَصْفٌ آخَرُ مِنْ أَوْصَافِ الْمُنَافِقِينَ جَاءَ فِي سِيَاقِ التَّقْرِيعِ الْمُتَقَدِّمِ. وَقَدَّمَ الْقَوْلَ فِيهِ عَلَى الْقُعُودِ عَنِ الْقِتَالِ لِأَنَّهُ أَقْبَحُ مِنْهُ؛ فَإِنَّ الْقُعُودَ رُبَّمَا كَانَ لِعُذْرٍ أَوِ الْتَمَسَ النَّاسُ لَهُ عُذْرًا، وَاللَّوْمُ فِيهِ عَلَى فَاعِلِهِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّ إِثْمَهُ لَا يَتَعَدَّاهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَأَمَّا هَذَا الْقَوْلُ الْخَبِيثُ فَإِنَّهُ أَدَلُّ عَلَى فَسَادِ السَّرِيرَةِ وَضَعْفِ الْعَقْلِ وَالدِّينِ، وَضَرَرُهُ يَتَعَدَّى لِمَا فِيهِ مِنْ تَثْبِيطِ هِمَمِ الْمُجَاهِدِينَ، أَقُولُ: وَيَدُلُّ عَلَى إِصْرَارِهِمْ مَا اجْتَرَمُوهُ مِنَ التَّثْبِيطِ وَالنَّهْيِ حِينَ انْفَصَلَ ابْنُ أُبَيٍّ بِأَصْحَابِهِ مِنَ الْعَسْكَرِ مُؤَيِّدِينَ ذَلِكَ بِالِاحْتِجَاجِ عَلَى أَنَّهُمْ فَعَلُوا الصَّوَابَ وَقَدْ دَحَضَ اللهُ تعالى حُجَّتَهُمْ بِقَوْلِهِ لِنَبِيِّهِ: قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَيْ إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ فِي حُكْمِهِ الْجَازِمِ يَتَضَمَّنُ أَنَّ عِلْمَهُمْ قَدْ أَحَاطَ بِأَسْبَابِ الْمَوْتِ فِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ، وَإِذَا جَازَ هَذَا فِيهَا جَازَ فِي غَيْرِهَا، وَحِينَئِذٍ يُمْكِنُهُمْ دَرْءُ الْمَوْتِ أَيْ دَفْعُهُ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، وَلِذَلِكَ طَالَبَهُمْ بِهِ وَجَعَلَهُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ. وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ فَرْقًا بَيْنَ التَّوَقِّي مِنَ الْقَتْلِ بِالْبُعْدِ عَنْ أَسْبَابِهِ وَبَيْنَ دَفْعِ الْمَوْتِ بِالْمَرَّةِ. فَالْمَوْتُ حَتْمٌ عِنْدَ انْتِهَاءِ الْأَجَلِ الْمَحْدُودِ وَإِنْ طَالَ، وَالْقَتْلُ لَيْسَ كَذَلِكَ. فَكَيْفَ احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِطَلَبِ دَرْءِ الْمَوْتِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ؟ قَالَ: وَهَذَا اعْتِرَاضٌ يَجِيءُ مِنْ وُقُوفِ النَّظَرِ، فَكُلٌّ يَعْلَمُ- وَلاسيما مَنْ حَارَبَ- أنه مَا كُلُّ مَنْ حَارَبَ يُقْتَلُ، فَقَدْ عُرِفَ بِالتَّجْرِبَةِ أَنَّ كَثِيرِينَ يُصَابُونَ بِالرَّصَاصِ فِي أَثْنَاءِ الْقِتَالِ وَلَا يَمُوتُونَ، وَأَنَّ كَثِيرِينَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْمَعْمَعَةِ سَالِمِينَ وَلَا يَلْبَثُونَ بَعْدَهَا أَنْ يَمُوتُوا حَتْفَ أُنُوفِهِمْ كَمَا يَمُوتُ كَثِيرٌ مِنَ الْقَاعِدِينَ عَنِ الْقِتَالِ. فَمَا كُلُّ مُقَاتِلٍ يَمُوتُ، وَلَا كُلُّ قَاعِدٍ يَسْلَمُ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدُ الأمريْنِ حَتْمًا سَقَطَ قَوْلُهُمْ وَظَهَرَ بُطْلَانُهُ. وَأَقُولُ: أنه ذَكَرَ فِي الْمَسْأَلَةِ كَلَامًا آخَرَ لَمْ أَكْتُبْهُ فِي وَقْتِهِ وَلَمْ أَفْرَغْ لَهُ بَعْدَهُ حَتَّى نَسِيتُهُ. وَكُلُّ مَنْ سَمِعَ كَلَامَ مَنْ لَاقَوُا الْحُرُوبَ يَعْجَبُ مِنْ كَثْرَةِ الْوَقَائِعِ الَّتِي يَسْلَمُ فِيهَا الْمُخَاطِرُونَ وَيَهْلِكُ الْحَذِرُونَ. اهـ.